لست أدري ماذا أكتب عن عمي مجاهد؟؟؟ ـ*بقلم وألوان :*خالد سليمان
**************************************************
اتصل بي صديق لزيارة مريض فرافقته على مضض ؛ فوقتي لا يسمح ، ونظرا لأنّ يوم الأحد حمل أعباء كثيرة لي في العمل والحرّ الشديد ، وفي الطريق اتفقت مع صديقي على إنهاء الزيارة عندما نسمع أذان المغرب .
وفي غرفة المرضى الكبيرة شعرت بالملل نظرا للإهمال الكبير ، ومشاهد المرضى المتألمين ، وتسمّرت عيناي في الأرض ؛ مما سمعت وشاهدت بل وشممت ، وأذّن المغرب ، فنظرت لصديقي بعين ملؤها الرجاء أن ننصرف بسرعة ، ولكنه تجاهلني بشكل محرج ، فانتظرت حتى إقامة الصلاة ولكنه لم يهتمّ .
فتجوّلت عيناي في المكان ؛ فلمحت في ركن الغرفة شخصا افترش الأرض ؛ ليصلي ؛ فحمدت الله ، واستأذنت للصلاة ، وعندما اقتربت من ذلك الشيخ المصلي ؛ أفسح لي في سجادته ؛ حتى وجدت أنها تسع العالم ، وجاءت تلاوته هادئة متميزة عذبة ، صوتها هادئ مثله ، وفي الركوع ؛ اقتربت منه ؛ لتسافر نسمة عطرة منه ، بعطر هامس رائع ، وعند السجود سمعته يدعو الله بأن يرزقه حسن الخاتمة .
انتهت صلاة المغرب ؛ فرأيته يحرص على أذكار ختم الصلاة ، وأردت الاستئذان ؛ فسلّم عليّ بوجه طفوليّ بسيط رائع أحببته ، ولاسيّما وصوته الهادئ يسافر في مسامعي ، تعرفت اسمه ، وعرف اسمي ، وقلت له : شفاك الله وعافاك ، فقال لي : ادع الله لي بحسن الخاتمة ، ومدّ يده تحت وسادته ليعطيني حبة شيكولاتة أنيقة ، وتمنّعت عن أخذها ، ولكن ابتسامته البيضاء العطرة ترافق كلماته المعدودة : أنت ضيفي الغالي ، وهذه أقل ضيافة لك فلا تردّ يد عمك الشيخ مجاهد ؛ فتناولتها وأنا أعزم الاحتفاظ بها ، وعدم تناولها مهما كان .
وناداني صديقي ؛ فاستأذنته وعدت سريعا ، وقد تبدلت روحي الكارهة للمكان إلى روحي العاشقة بفضل تلك الروح ، وعدت لأجد صديقي الكريم يهديني عصير التفاح الأخضر ، وهو يقول لي كلمتي الضاحكة : أستاذ خالد ، تفضل عصير البرسيم لأنني كنت دائما أطلق هذا الاسم على عصير التفاح الأخضر ، فابتسم الجميع ، وضحكنا ثمّ قلت له : أعطني علبة عصير أخرى ، فقدّم لي علبة باردة لذيذة ، فقلت لطفل صغير ، اذهب للرجل الذي كنت أصلي معه وأعطه تلك العلبة ، وأنا سأشير إليك ، ولكن عاد الطفل ، وهو يقول : لقد ردّها ، وأعطاني حبّة شيكولاتة ، فابتسمت وأخذتها ، وذهبت بنفسي ، وقلت : تفضّل ، فتناولها مني ، وهو مبتسم قائلا : آخذها منك نعم ؛ لأنني أريد رؤيتك ، فلم أستطع الرد سوى بقولي : جزاك الله خيرا وعدت سريعا ؛ لنتناول أطراف الحديث ، حتى وقفنا ؛ استعدادا للرحيل ، فسلمت على الجميع وعلى المرضى ، أما هو ؛ فقد ذهبت إليه ؛ لأهنأ بوداعه ولاسيّما ، وأنه وحيد لم يزره أحد في فترة الزيارة المسائية .
وعدت لبيتي ومشهد هذا الرجل لا يفارقني ، وبعد يومين كنت ألحّ على صديقي ألن تذهب لزيارة قريبك ؟؟؟ فردّ مدهوشا بكلماتي : يبدو أنك انسجمت مع عمّك الشيخ مجاهد ، فقلت : نعم ، ولاسيّما وزيارة المريض تقدّم للإنسان كشف حساب ربّانيّ للنعم التي لا حصر لها .
قال : سنذهب اليوم بعد العصر ، وفرحت بموافقته جدا ،وتهيأت للقاء عمي مجاهد ، وعندما دخلت غرفة المرضى ؛ وجدته محاطا ببعض الشباب ، فتأخرت عن تحيته ؛ لوجود نقاش حاد بينه وبينهم ، وخاصة وهناك شاب غليظ القلب يعنّفه ويلومه ؛ لأنه طلب ما يسمّى بالصديري ؛ لتعوّده على ارتدائه ، بقوله : العالم تقدّم الصديري ده كان زمان سيبك من لبس المتخلفين ده .
ونظرا لسوء معاملة الأولاد له ؛ اكتأبت روحي ، وهو صامت كأنه قد نذر للرحمن صوما ؛ فلن يكلّم اليوم إنسيا .
وانصرف الشباب تاركين الرجل وحيدا حزينا صامتا ، فانطلقت إليه ؛ لأسلّم عليه فعادت ابتسامته والعجيب أنه تذكّر اسمي ، وبدأنا نتحدث ، ولكن صديقي جاءه هاتف مفاجئ ، فاضطررنا للخروج سريعا ، وبدأت أفكّر ، كيف أسعد هذا القلب ؟ ، فقررت شراء ما يسمّى بالصديري له تلبية لطلبه ، ولكنه في هذه المدينة صار من الممنوعات ، وأخيرا وجدته ، وصديقي متعجّب من صنيعي ، واتفقنا على الزيارة الثانية يوم الخميس ، وكم كانت سعادته وهو يراني ، وسعد أكثر عندما اشتريت له صديري ، يناسب مقاسه بدلا من المقاسات الضيقة غير المريحة ، وعرض عليّ ثمنه بإصرار ؛ فأقسمت بالله ألا يعرفني وأعرفه ؛ فغلب إصراري إصراره .
وبدأ يتحدّث عن نفسه ، بأنه صاحب كتّاب يعلّم الأطفال القرآن الكريم ، ودعاني صديقي للرحيل ، وإذا به يقول : زرني متى جئت هنا ، فابتسمت ، وقلت بالتأكيد ، ادع الله لي يا شيخ مجاهد ، فابتسم وقال : ادع الله لي بحسن الخاتمة ، فابتسمت وفارقته ، وأنا لم أشبع من الحوار الحلو الجميل .
وبدأ قلبي يتعلّق بهذا الرجل الرائع الذي سكن روحي ، ونظرا لظروف العمل تأخرت عن زيارته عشرة أيّام ، حتى كان أول أمس في الخامسة بعد العصر ، زرت المكان ، لكنني لم أجد عمي مجاهد ، فسألت عنه ، فقالوا : لقد توفاه الله من يومين ، وهو أبلغنا أن نسلّم عليك ، ووصّاهم أن أدعو الله له ، تلقيت الخبر بألم ، وبدأت خطواتي تقودني إلى مكانه ، وأنا أتلمس سريره وجدران المكان والوسادة وفرش السرير الذي غيّره الممرضون .
نظرت إلى تفاصيل المكان ، وأنا أكرر : اللهم ارحمه رحمة واسعة ، وأقرئه مني السلام يارب ، وبدأت دموعي الداخلية يفيض بها قلبي ، كأني أعرفه من ألف عام ، وجاء صديقي ليصطحبني إلى الخارج فقلت له : أمهلني لحظات فقط ، وأنا أنظر لموضع سجوده ، ونظرت للحائط لأرى لوحة تقويم قديمة مكتوب عليها اسم الله بخط رائع ، فاستأذنت الجميع أن يعطوها لي ، ولا سيّما وأنّ عمّي مجاهد كان يقول : إنه لا يغمض عينيه إلا عليها ،
اللهم ارحمه رحمة واسعة
يارب يارب يارب
**************************************************
اتصل بي صديق لزيارة مريض فرافقته على مضض ؛ فوقتي لا يسمح ، ونظرا لأنّ يوم الأحد حمل أعباء كثيرة لي في العمل والحرّ الشديد ، وفي الطريق اتفقت مع صديقي على إنهاء الزيارة عندما نسمع أذان المغرب .
وفي غرفة المرضى الكبيرة شعرت بالملل نظرا للإهمال الكبير ، ومشاهد المرضى المتألمين ، وتسمّرت عيناي في الأرض ؛ مما سمعت وشاهدت بل وشممت ، وأذّن المغرب ، فنظرت لصديقي بعين ملؤها الرجاء أن ننصرف بسرعة ، ولكنه تجاهلني بشكل محرج ، فانتظرت حتى إقامة الصلاة ولكنه لم يهتمّ .
فتجوّلت عيناي في المكان ؛ فلمحت في ركن الغرفة شخصا افترش الأرض ؛ ليصلي ؛ فحمدت الله ، واستأذنت للصلاة ، وعندما اقتربت من ذلك الشيخ المصلي ؛ أفسح لي في سجادته ؛ حتى وجدت أنها تسع العالم ، وجاءت تلاوته هادئة متميزة عذبة ، صوتها هادئ مثله ، وفي الركوع ؛ اقتربت منه ؛ لتسافر نسمة عطرة منه ، بعطر هامس رائع ، وعند السجود سمعته يدعو الله بأن يرزقه حسن الخاتمة .
انتهت صلاة المغرب ؛ فرأيته يحرص على أذكار ختم الصلاة ، وأردت الاستئذان ؛ فسلّم عليّ بوجه طفوليّ بسيط رائع أحببته ، ولاسيّما وصوته الهادئ يسافر في مسامعي ، تعرفت اسمه ، وعرف اسمي ، وقلت له : شفاك الله وعافاك ، فقال لي : ادع الله لي بحسن الخاتمة ، ومدّ يده تحت وسادته ليعطيني حبة شيكولاتة أنيقة ، وتمنّعت عن أخذها ، ولكن ابتسامته البيضاء العطرة ترافق كلماته المعدودة : أنت ضيفي الغالي ، وهذه أقل ضيافة لك فلا تردّ يد عمك الشيخ مجاهد ؛ فتناولتها وأنا أعزم الاحتفاظ بها ، وعدم تناولها مهما كان .
وناداني صديقي ؛ فاستأذنته وعدت سريعا ، وقد تبدلت روحي الكارهة للمكان إلى روحي العاشقة بفضل تلك الروح ، وعدت لأجد صديقي الكريم يهديني عصير التفاح الأخضر ، وهو يقول لي كلمتي الضاحكة : أستاذ خالد ، تفضل عصير البرسيم لأنني كنت دائما أطلق هذا الاسم على عصير التفاح الأخضر ، فابتسم الجميع ، وضحكنا ثمّ قلت له : أعطني علبة عصير أخرى ، فقدّم لي علبة باردة لذيذة ، فقلت لطفل صغير ، اذهب للرجل الذي كنت أصلي معه وأعطه تلك العلبة ، وأنا سأشير إليك ، ولكن عاد الطفل ، وهو يقول : لقد ردّها ، وأعطاني حبّة شيكولاتة ، فابتسمت وأخذتها ، وذهبت بنفسي ، وقلت : تفضّل ، فتناولها مني ، وهو مبتسم قائلا : آخذها منك نعم ؛ لأنني أريد رؤيتك ، فلم أستطع الرد سوى بقولي : جزاك الله خيرا وعدت سريعا ؛ لنتناول أطراف الحديث ، حتى وقفنا ؛ استعدادا للرحيل ، فسلمت على الجميع وعلى المرضى ، أما هو ؛ فقد ذهبت إليه ؛ لأهنأ بوداعه ولاسيّما ، وأنه وحيد لم يزره أحد في فترة الزيارة المسائية .
وعدت لبيتي ومشهد هذا الرجل لا يفارقني ، وبعد يومين كنت ألحّ على صديقي ألن تذهب لزيارة قريبك ؟؟؟ فردّ مدهوشا بكلماتي : يبدو أنك انسجمت مع عمّك الشيخ مجاهد ، فقلت : نعم ، ولاسيّما وزيارة المريض تقدّم للإنسان كشف حساب ربّانيّ للنعم التي لا حصر لها .
قال : سنذهب اليوم بعد العصر ، وفرحت بموافقته جدا ،وتهيأت للقاء عمي مجاهد ، وعندما دخلت غرفة المرضى ؛ وجدته محاطا ببعض الشباب ، فتأخرت عن تحيته ؛ لوجود نقاش حاد بينه وبينهم ، وخاصة وهناك شاب غليظ القلب يعنّفه ويلومه ؛ لأنه طلب ما يسمّى بالصديري ؛ لتعوّده على ارتدائه ، بقوله : العالم تقدّم الصديري ده كان زمان سيبك من لبس المتخلفين ده .
ونظرا لسوء معاملة الأولاد له ؛ اكتأبت روحي ، وهو صامت كأنه قد نذر للرحمن صوما ؛ فلن يكلّم اليوم إنسيا .
وانصرف الشباب تاركين الرجل وحيدا حزينا صامتا ، فانطلقت إليه ؛ لأسلّم عليه فعادت ابتسامته والعجيب أنه تذكّر اسمي ، وبدأنا نتحدث ، ولكن صديقي جاءه هاتف مفاجئ ، فاضطررنا للخروج سريعا ، وبدأت أفكّر ، كيف أسعد هذا القلب ؟ ، فقررت شراء ما يسمّى بالصديري له تلبية لطلبه ، ولكنه في هذه المدينة صار من الممنوعات ، وأخيرا وجدته ، وصديقي متعجّب من صنيعي ، واتفقنا على الزيارة الثانية يوم الخميس ، وكم كانت سعادته وهو يراني ، وسعد أكثر عندما اشتريت له صديري ، يناسب مقاسه بدلا من المقاسات الضيقة غير المريحة ، وعرض عليّ ثمنه بإصرار ؛ فأقسمت بالله ألا يعرفني وأعرفه ؛ فغلب إصراري إصراره .
وبدأ يتحدّث عن نفسه ، بأنه صاحب كتّاب يعلّم الأطفال القرآن الكريم ، ودعاني صديقي للرحيل ، وإذا به يقول : زرني متى جئت هنا ، فابتسمت ، وقلت بالتأكيد ، ادع الله لي يا شيخ مجاهد ، فابتسم وقال : ادع الله لي بحسن الخاتمة ، فابتسمت وفارقته ، وأنا لم أشبع من الحوار الحلو الجميل .
وبدأ قلبي يتعلّق بهذا الرجل الرائع الذي سكن روحي ، ونظرا لظروف العمل تأخرت عن زيارته عشرة أيّام ، حتى كان أول أمس في الخامسة بعد العصر ، زرت المكان ، لكنني لم أجد عمي مجاهد ، فسألت عنه ، فقالوا : لقد توفاه الله من يومين ، وهو أبلغنا أن نسلّم عليك ، ووصّاهم أن أدعو الله له ، تلقيت الخبر بألم ، وبدأت خطواتي تقودني إلى مكانه ، وأنا أتلمس سريره وجدران المكان والوسادة وفرش السرير الذي غيّره الممرضون .
نظرت إلى تفاصيل المكان ، وأنا أكرر : اللهم ارحمه رحمة واسعة ، وأقرئه مني السلام يارب ، وبدأت دموعي الداخلية يفيض بها قلبي ، كأني أعرفه من ألف عام ، وجاء صديقي ليصطحبني إلى الخارج فقلت له : أمهلني لحظات فقط ، وأنا أنظر لموضع سجوده ، ونظرت للحائط لأرى لوحة تقويم قديمة مكتوب عليها اسم الله بخط رائع ، فاستأذنت الجميع أن يعطوها لي ، ولا سيّما وأنّ عمّي مجاهد كان يقول : إنه لا يغمض عينيه إلا عليها ،
اللهم ارحمه رحمة واسعة
يارب يارب يارب
تعليقات
إرسال تعليق